samedi 16 octobre 2010

مصر والدولة المدنية

بقلم: د. رفعت السعيد

استمرت الأرض المصرية أكثر من ألف وثمانمائة عام تحت وطأة حكام أجانب نهبوا ثرواتها وحولوا كل شعبها إلى مجرد دافعي ضرائب‏، ‏ وحرموهم من تولي أمور أنفسهم ومن الاشتراك في الجندية إلى درجة أن أحد الباحثين قال‏:‏ في زمن العثمانيين وحتى تولي محمد علي حكم مصر مرت علي مصر أنظمة وأحكام وحكام شتي‏، لكنهم اتفقوا جميعا علي طمس الهوية المصرية وامتصاص دماء المصريين وأضاف كان الجميع مسلمين وأقباط يدفعون الجزية‏، البعض يدفعها لأنه مسيحي‏، والمسلمون يدفعونها في صورة ضرائب لأنهم مقهورون‏.‏

وأتي محمد علي ليحاول أن ينهض بمصر كدولة ذات هوية مستقلة ويمكن تلخيص سياسته في ثلاث كلمات‏:‏ التحديث ـ التصنيع ـ التغريب‏، ويروي فالنتين شيرول في كتابه المسألة المصرية أن محمد علي كان يقول دوما‏:‏ إن مصر جنة الله في الأرض ولو منحني الله ألف حياة غير حياتي هذه لبذلتها جميعا من أجل مصر‏:‏ ص‏36‏ من الطبعة الانجليزية الأولي ويروي شيرول قصة بناء الجيش المصري الأول منذ انتهاء العصور الفرعونية فقال‏:‏ اقتسم المصريون جميعا ـ مسلمين وأقباطا ـ هموم ومتاعب الجندية وشارك الأقباط في الجيش لأول مرة وهكذا لم يعد الأقباط مجرد ذميين وإنما مواطنون في دولة حديثة‏.‏

وسواء كان محمد علي يحب نفسه أو يحب مصر‏، فإنه قد منحها أولي خطوات المواطنة المتكافئة في دولة حديثة‏، فقد نهج منذ بداية حكمه‏(1805)‏ سياسة تسامح ديني واضحة‏، فألغي القيود المفروضة علي زي الأقباط‏، وألغي كل القيود التي كانت مفروضة علي ممارساتهم لطقوسهم الدينية ومنح الجميع فرصا متكافئة في تولي الوظائف وكانت الأفضلية للأكفأ بغض النظر عن الدين وتشهد وثائق القلعة أسماء قبطية تولي أصحابها مواقع إدارية رفيعة ووظائف مأمورين لمراكز برديس والفشن وديرمواس وبهجورة‏، وكان محمد علي أول حاكم يمنح الأقباط رتبة البكوية وكان له مستشارون عديدون من الأقباط‏، ولعل استعانة محمد علي بعديد من الخبراء الغربيين وهم من المسيحيين قد أوجد مناخا مواتيا لذلك‏، ويأتي عصر سعيد‏(1854‏ ـ‏1863)‏ ليصدر قانون الخدمة العسكرية الذي يعامل المصريين جميعا مسلمين وأقباطا علي قدم المساواة‏، وكذلك كان الأمر في سلك القضاء وفي البعوث التي سافرت إلى أوروبا‏، كما انه عين حاكما قبطيا على مصوع ويأتي عصر إسماعيل ليزيد من عدد القضاة الأقباط ولينتخب ولأول مرة أقباطا في البرلمان‏.‏

وعلي المستوي الشعبي لعب رفاعة الطهطاوي دورا بارزا في إحياء أسس الدولة المدنية‏، وفي كتابه مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية تحدث رفاعة عن المجد الفرعوني المصري وأكد مبدأ المواطنة وأورد تعبيرات مثل الأخوة الوطنية والكرامة الوطنية وخاض مع رفاعة في معركة التنوير عديدا من تلاميذه الأقباط مثل تادرس وهبي وميخائيل عبد السيد‏، ومن تلاميذه عديد من الأقباط تولوا مناصب قيادية في الجيش وفي سلك الإدارة ‏(صالح بك مجدي ـ حلية الزمن بمناقب خادم الوطن رفاعة بك رافع‏)‏ وفي الثورة العرابية تشارك المصريون جميعا ـ مسلمين وأقباطا ـ في غمار الثورة وتشاركوا في معادة الاحتلال البريطاني‏، وفي مطلع القرن العشرين ارتفع شعار مصر للمصريين في مواجهة دعاة فكر الخلافة الذين رفعوا شعار لا وطنية في الإسلام ونهض لطفي السيد بعبء الدولة الليبرالية لمواطنة واحدة موحدة علي أساس المساواة الكاملة‏، وأكد أن المواطنة تعني انتماء المواطنين إلى كيان سياسي موحد وتساويهم في الحقوق والواجبات في إطار الوطن‏.(‏ د‏.‏ عفاف لطفي السيد ـ الليبرالية المصرية ـ الطبعة الانجليزية ص‏112)‏ ويقول ألبرت حوراني في كتابه‏(‏ الفكر العربي في عصر النهضة ـ ص‏216)‏ كان لطفي كغيره من المفكرين المصريين الليبراليين لا يحدد الأمة علي أساس اللغة أو الدين بل علي أساس الانتماء إلي الأرض وهو لم يفكر بأمة إسلامية أو عربية بل بأمة مصرية قال دوما أنها أمة القاطنين علي أرض مصر‏.‏

وتأتي ثورة‏1919‏ لتكرس الانصهار المصري تحت شعار الدين لله والوطن للجميع وانخرط فيها جملة كبيرة من كبار الأقباط‏.‏ وفي عام‏1922‏ ومع التهاب العمل الثوري قبضت سلطة الاحتلال علي سبعة من القادة الوفديين كان بينهم أربعة أقباط هم ويصا واصف ومرقص حنا وواصف بطرس غالي‏، جورجي خياط‏، وحوكم السبعة أمام محكمة عسكرية حكمت عليهم بالإعدام لكن الحكم جري تخفيفه‏.‏

وعندما ألف سعد زغلول أول وزارة له في يناير‏1924‏ اختار فيها ثلاثة أقباط من بين تسعة وزراء هم مجموع مجلس الوزراء‏، لكن السلطان فؤاد رفض قائلا‏:‏ هناك خطأ في الحساب يا باشا‏، فقد اعتدنا أن يكون هناك وزير قبطي واحد‏، ثم أن هناك وزيرا قبطيا مرشحا لتولي وزارة العدل التي يتبعها القضاء الشرعي‏، وتنازل سعد عن الأخير وأتي للوزارة بوزيرين قبطيين من‏9، لكنه قبل أن يفعل ذلك واجه السلطان قائلا‏:‏ إن رصاص الانجليز لم يحترم عادة أن يكون هناك وزير واحد فكان يحصد المصريين إبان الثورة دون تمييز بين مسلم ومسيحي‏.‏

ويجيء الأعداد لدستور‏1923‏ والذي يرفض الأقباط النص فيه علي تمثيل نسبي لهم في البرلمان‏، مؤكدين أن قبول التمثيل النسبي يعني التشكيك في نيات المسلمين من أبناء الوطن وعدم الثقة في إيمانهم بالمواطنة‏، ويتضمن الدستور مواد حازمة مثل حرية الاعتقاد مطلقة‏(‏ م‏12)‏ وحرية الرأي مكفولة‏(‏ م‏14)‏ والمصريون لدي القانون سواء وهم متساوون في التمتع بالحقوق المدنية والسياسية وفيما عليهم من الواجبات والتكاليف العامة‏، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الأصل أو اللغة أو الدين‏.‏

وهكذا وخطوة خطوة أقام المصريون صرح دولتهم المدنية وإن ظلت تشوبها مسحة من تطرف‏، لكنها علي الأقل تعلن مجرد إعلان يراه البعض شكليا أنها تقوم علي أساس وحدتهم الوطنية والتي بدونها تختل قواعد المواطنة‏، فلا مواطنة بلا تكافؤ ومساواة تامة في الحقوق والواجبات‏.‏

ولعل من حقنا أن نسأل‏:‏ والآن ماذا جري لمصر؟ وكيف استطاع بوم التأسلم والمتطرفون من الجانبين والذين ينعقون بالخراب في فضائيات بير السلم أن يعبثوا بصرح الدولة المدنية الذي بناه المصريون عبر قرنين من الزمان؟

وأن نسأل إذا لم نسكت نعيق هذا البوم فإلي أين نحن سائرون؟

والإجابة الحقيقية هي أننا نحتاج إلي إرادة سياسة حازمة تحقق التكافؤ الفعلي والعملي في كل المجالات وبلا أي تمييز ونحتاج أيضا تعليما يليق بمصر ومصرييها وإعلاما خاليا من شوائب التطرف ومحو كل التمييزات الظاهرة الخفية أم أن هناك إجابات أخري‏!‏

__._,_.___

Aucun commentaire: