بقلم: د. وحيد عبد المجيد
لم يمض قرن واحد علي تبلور الهوية الوطنية المصرية، ووضع خط واضح يميزها عن الهوية الدينية إسلامية ومسيحية، حتى دار بعض المصريين علي أعقابهم مرتدين إلي زمن سبق رسوخ فكرة مصر للمصريين التي ظهرت قرب نهاية القرن التاسع عشر.
فقد أخذ ثقل الانتماء الديني يزداد باطراد منذ بداية سبعينيات القرن الماضي إلى أن بلغ اليوم مبلغا يدفع إلي الخوف ويفرض قرع أجراس الإنذار بأعلى صوت.
فكثير من المصريين الآن يعتبرون أنفسهم مسلمين أو مسيحيين قبل كل شيء. هويتهم الدينية طاغية. وإذا رتبنا أولوياتهم من زاوية شعورهم الحقيقي بالانتماء، نجد الدين في المرتبة الأولي، ويأتي بعده الانتماء الجغرافي الضيق إلى المكان الذي نشأ فيه المرء وهنا تتقدم المحافظة( سوهاجي أو قناوي مثلا) علي المنطقة الوسع( صعيدي في هذه الحالة).
اما الهوية الوطنية التي ناضلت أجيال لتأكيدها فقد صارت في المؤخرة، دون أن يعني ذلك فقد الشعور الوطني لان خلطا معيبا يشيع ويدفع إلى الاعتقاد في أن المصريين لم يعودوا وطنيين.
فالشعور الوطني لا يبارح الإنسان ـ أي إنسان في عالم اليوم بعدما يقرب من أربعة قرون علي ظهور دولة الوطن( الدولة القومية) فالهوية الوطنية والشعور الوطني ليسا مترادفين، ولا هما متطابقين، ولذلك تتراجع الهوية الوطنية حين تطغي عليها هوية فرعية أو أكثر( دينية في حالة مصر الآن) بينما يبقي الشعور الوطني كامنا يظهر في لحظات معينة ظهورا ايجابيا( في مواجهة إسرائيل مثلا) أو سلبيا( الجزائر في مسابقة لكرة القدم علي سبيل المثال) حسب مجريات الأحداث.
وهذا هو ما يحدث الآن وينطوي علي خطر عظيم. لم يعد كثير من المصريين يتصرفون باعتبارهم مواطنين تجمعهم هوية وطنية. فقد تداعت هذه الهوية بفعل تفاقم أزمة الوطن الذي تنسب إليه وتقترن به فالهوية الوطنية تنتعش حين يكون الوطن محلا للسعادة المشتركة عليا للنحو الذي تمناه رفاعة رافع الطهطاوي قبل ما يقرب من قرنين. فإذا لم يكن الوطن كذلك، تضطرب الموازين المتعلقة بالهوية فيه. وعندئذ قد يصير الحديث عن دولة مدنية ضربا من خيال أو إبحارا في عالم الآمال.
ولا يغرنك حجم المساحة التي يشغلها الكلام عن الدولة المدنية في الخطاب السياسي والثقافي، فهذا زمن العلاقة المعكوسة بين الشعارات والحقائق،وبين الكلام والفعل. وربما هذا يفسر لماذا لم تصبح المواطنة نصا دستوريا إلا عندما كفت عن أن تكون حالة واقعية، أو كادت، فقد الحق مبدأ المواطنة بالمادة الأولى في الدستور ضمن التعديلات التي أقرت عام2007، أي في الوقت الذي كانت الهوية الدينية قد بلغت مبلغها الذي اضعف الهوية الدينية وما يقترن بها من مقومات.
ويحدث ذلك في حياة الناس اليومية علي الأرض، وليس فقط في قنوات تليفزيونية تبث التعصب الديني في الفضاء فما ازدياد هذه القنوات عددا وتطرفا إلا نتيجة ما يحدث في الواقع المعاش. فالتوتر الكامن في العلاقات بين كثير من المسلمين والمسيحيين أصبح أكثر وضوحا من أي وقت مضي، وأشد خطرا من أن يمكن إغفاله أو التهوين من شأنه. فلم يكن متخيلا قبل ثلاثين عاما علي الأكثر أن تصبح القطيعة هي السمة الغالبة في العلاقات بين مسلمين ومسيحيين يجمعهم الجوار في السكن أو العمل أو الدراسة. ولم يكن متصورا أن تصير المعاملات الطبيعية بين مسلمين ومسيحيين استثناء من قاعدة عامة، أو تكاد تكون كذلك.
فلم يكن في إمكان أي خيال، مهما يشيد به الجموح، أن يبلغ المبلغ الذي يجعله يتخيل مشهد مصريين يتظاهرون من أجل أسلمة امرأة أو تنصير رجل، ورجال دين وفقهاء يصبون زيتا علي نار يلعبون بها.
ويثير هذا كله السؤال عما إذا كان النيل قد كف عن أن يسري بالطريقة نفسها في عروق بعض المصريين، بخلاف الحال حين غنينا مع الفنان البديع الراحل عدلي فخري ما كتبه الشاعر الكبير سمير عبد الباقي في قصيدة ( شراع السفينة. كنا نغني من قلوبنا مسلمين ولا نصارى.. في عروقنا بيسري نيلك.
ونفيض حماسا عندما يتجسد الصدق في صوت عدلي فخري:
بأحب صوت الكنايــس
واعشـــــق هــديل الآدان
يا قلبي كون ألف فارس
تحـرس عشــوش اليمام
كانت هذه هي مصر فعلا حثي ذلك الوقت في منتصف سبعينيات القرن الماضي، وكنا نظن أن وحدتنا أقوي من أن تجرفها فتنة بدأت إرهاصاتها في تلك المرحلة نشازا غريبا ملفوظا.
غير أن خطر هذه الفتنة يتعاظم الآن، وسيبقي هذا الخطر فوق رؤوسنا إلي أن تعي الأجيال الجديدة أن العمل من أجل مصر التي يحلمون بها يبدأ بتكاتف محبيها من مسلمين ومسيحيين، وليت الأكثر وعيا في هذه الأجيال يعيدون قراءة أغانينا الوطنية الأشد إلهاما في هذا المجال وينشدون منها مثلا:
اخضرت بعروقنا فدان من فدان
لا هلال عاشها لوحده ولا عاشها الصلبان
فلم تكن شراع السفينة أغنية للوحدة الوطنية، بل من أجل الوطن وتحرير سيناء التي كانت تحت الاحتلال الصهيوني، ومع ذلك، فقد بدت كما لو أنها مكتوبة بحروف الوحدة الوطنية ومغناة بلحنها، ولم يكن تجسد هذه الوحدة في مؤلفها المسلم ومغنيها المسيحي إلا مصادفة هي خير من أي ترتيب يحدث مسبقا للتعبير عن هذه الوحدة، فالمؤلف المسلم والمغني المسيحي مصريان، وكذلك كل من تفاعلوا مع الأغنية ورددوا معهما:
شــيلنا زعف النخــل
شيلنا فانوس رمضان
كلنا الكحـــك بســـكر
والبيـــــض الألـــــــوان
وغطسنا في غطاسها
وقـــرينـــــــا القـــــــرآن
ودوقنا عيـش الرحمة
في النص من شــعبان
يا خــوفي من التوهــة
في بحـــور النســـيان
وهل من خوف أكثر مما قد يترتب علي توهة هذه الأيام ونسيان أننا تلاحمنا وتعانق هلالنا وصليبنا في الأحزاب قبل الأفراح. علي النحو الذي تصوره الأغنية ببلاغة وبساطة في كلماتها:
ضي الهلال الحزين طول عمره حضن الصليب
والحزن له بلدنا قصة طويلة حزينة
نحكيها ولو ألف مرة للريف وأهل المدينة
فيا شباب مصر احكوا قصة هلالها وصليبها مليون مرة، ليس ألفا، إلي أن تبتعد الفتنة المرة.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire